ربما تكمن واحدة من أهم مشكلات الجدال المعاصر حول الشريعة، على اختلاف أطرافه، في التفكير في الشريعة كنظام ديني، وليس كنظام قانوني. وكما يقول باحث الدراسات الإسلامية البارز بجامعة هارفارد، بيبر يوهانسن، في كتابه «اللايقين في القانون الإلهي -Contingency in a sacred law»: «لا يمكن فهم الفقه ما لم نقدر أنه شكل المرجع المعياري الرئيسي للأنظمة القضائية في العالم الإسلامي حتى القرن التاسع عشر». ويشير يوهانسن في هذا الاقتباس إلى عمل المحاكم الشرعية التي كانت تمثل حجر الأساس في النظام القضائي الإسلامي طوال القرون السابقة على الحداثة، بشكل لم يدرس ويفهم بعد بشكل كاف.
ربما يعجز الكثيرون عن فهم هذه الحقيقة لعدة أسباب؛ أولها شيوع النظر إلى الشريعة بوصفها قانوناً إلهياً وليست مجالاً للتفكير القانوني شارك فيه الفقهاء والمصنفون والمفتون والقضاة الشرعيون عبر القرون، وانطوى على تعددية جوهرية في الآراء، تناقض تماماً فكرة القانون الإلهي الشائعة، لازمته منذ ابتدأ عصر التدوين وحتى بدايات القرن العشرين. ومن اللافت أن تشيع هذه النظرة غير الدقيقة إلى الشريعة بوصفها قانوناً إلهياً بين الإسلاميين وخصومهم على السواء. فأنصار الشريعة من التيارات الإسلاموية لا يستطيعون الانفلات من الجاذبية الخطابية لفكرة القانون الإلهي التي استطاعوا أن يغازلوا بها قلوب الجماهير طوال قرن كامل. كما أن خصوم الإسلاميين لا يستطيعون كذلك تجاوز الفزع الذي تمثله فكرة القانون الإلهي في العقل الحديث. ومن هذه الثنائية المشوشة بين الإسلاميين وخصومهم يتشكل الجدال المعاصر حول الشريعة، في معركة لا علاقة لها إطلاقاً بتاريخ الشريعة نفسها، كما مورست بالفعل في المحاكم الشرعية، وليس كما يتخيلها العقل الحديث أو يصورها الخطاب السياسي للإسلاميين.
وينقلنا هذا التمييز بين الشريعة التاريخية والشريعة المتخيلة إلى السبب الثاني لعجز الكثيرين عن فهم هذه الحقيقة، ألا وهو ضعف المعرفة بتاريخ المحاكم الشرعية، التي كانت، كما ذكرت سابقاً، حجر الأساس في النظام القضائي الإسلامي طوال القرون السابقة على الحداثة، كما كانت جزءاً من النظام القضائي المصري الرسمي حتى عام 1955. ولعلها قد تكون مفاجأة لهواة السردية الرسمية لتاريخ الوطنية المصرية أن المحاكم الشرعية كانت جزءاً من النظام القضائي المصري الرسمي، أثناء الثورة العرابية، وأثناء ثورة 1919، وأثناء وضع دستور 23، أيقونة الانتصار الليبرالي في السردية الوطنية المصرية، وحتى أثناء ثورة 52، وصولاً إلى عام 55 حين قام النظام الناصري بإلغائها ضمن حزمة تغييرات كبرى في النظام القانوني والقضائي المصري.
ويرجع هذا الضعف في معرفة تاريخ المحاكم الشرعية وطريقة عملها وآلياتها، والطريقة التي استخدمت بها متون الفقه لتحقيق العدالة، إلى أن أغلب الكتابات الحديثة عن الشريعة، وكما يؤكد المستشرق الفرنسي الكبير إميل تيان في كتابه «تاريخ النظم القضائية في بلاد الإسلام»، سادها المنحى الاستشراقي العام الذي تعرف على الشريعة من خلال متون الفقه حصراً، وخاصة تلك المتون المبكرة، ولم ينظر إطلاقاً إلى الأدبيات القضائية الإسلامية، وهي كثيرة جداً، كما لم ينظر إطلاقاً إلى الممارسة القضائية نفسها في المحاكم الشرعية وكيف استُعملت هذه المتون في فض النزاعات وإقرار العدالة. ومن هذه الزاوية، عجز الاستشراق الكلاسيكي عن فهم الطبيعة الدينامية للشريعة كنظام قانوني فاعل ومتحرك ومتطور عبر التاريخ عن طريق اتصاله بالحركة الاجتماعية والنزاعات اليومية التي تُنظَر في المحاكم الشرعية، وليس كمحض عملية تفسيرية سلبية للأوامر الإلهية، والنصوص المقدسة، وهي الطريقة التي ورثها عن الاستشراق دعاة الحداثة والتنوير في الوقت الحالي.
وقد كانت هذه النظرة الاستشراقية الاختزالية هي المخزون المعرفي الذي حمله المستعمرون البريطانيون والفرنسيون في فترة الاستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي خلال القرن الثامن عشر في شبه القارة الهندية، والتاسع عشر في المشرق والمغرب العربيين. كما كانت هذه التصورات هي الأساس الذي قامت عليه خطط الحكومات الاستعمارية لإعادة هيكلة النظم القانونية المحلية في بلاد المستعمرات، مثل الجزائر ومصر، وهو ما أدى في أغلب هذه الحالات إلى نتائج كارثية.
ولعل التوجه الاستعماري قد صادف محلياً هوى نخبوياً مواتياً بالفعل، يشعر بالمرارة من الهزيمة المتواصلة، والتداعي المستمر لدولة الخلافة، وتفكك المؤسسات الاجتماعية تحت ضغوط الحداثة والتقادم الطبيعي. ومن هذا المزاج، وبدعم من القوى المستعمرة، خرجت التوجهات التي رفعت شعار الإصلاح، بجناحيها السلفي والتغريبي، كمحاولات لتجاوز أزمة المجتمعات الإسلامية وإنهاضها من كبوتها. ومن اللافت للنظر أن كلا الجناحين، السلفي والتغريبي، قد اشتركا في سمة أساسية، جعلتهما تاريخياً يتحركان في دوائر شديدة التقارب حتى منتصف القرن العشرين تقريباً، حين بدأت الفجوة بينهما تتسع، وصولاً إلى تناقضهما الحالي. وهذه السمة المشتركة بين الإصلاح السلفي والإصلاح التغريبي أنهما كليهما اختصم التقليد الفقهي المذهبي باعتباره المتهم الأساسي في التردي الاجتماعي والسياسي، وأنهما كليهما اعتبر أن النخب المعممة التي تمثل هذا التقليد الفقهي المذهبي قد أخفقت في قيادة الاجتماع الإسلامي ومواجهة ضغوط الحداثة والغرب المتعاظم القوة في ذلك الوقت.
بالتحديد، وجه جناحا الإصلاح في القرن التاسع عشر – الجناح السلفي والجناح التغريبي – أصابع الاتهام لفكرة الاختلاف بين المذاهب، وداخل المذهب الواحد، والتي هي جوهر الفكرة المذهبية، باعتبارها العقبة الأساسية أمام تكوين نظام قانوني إسلامي فاعل، لكن مع فارق جوهري بين رؤية الجناحين لهذا النظام المأمول. فالجناح التغريبي طمح إلى نظام قانوني مدون وثابت على غرار القانون المدني الفرنسي، الذي كان قِبلة القانونيين في العالم كله تقريباً خلال القرن التاسع عشر. بينما سعى الجناح السلفي إلى نسخة غير مذهبية من الأحكام الشرعية، نسجها على غرار تصور مثالي - وغير حقيقي - عن عالم السلف الصالح الذي كانت خلافاته – بحسب التصور الموهوم - في حدها الأدنى.
وفي هذا السياق، وبهذا المعنى تحديداً، تشكلت دعاوى الإصلاح بين قطاعات واسعة من النخب المثقفة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وقد كانت المحاكم الشرعية هي الميدان التطبيقي لهذا الإصلاح المنشود.
وعلى هذا الأساس نادى عدد من القادة الإصلاحيين من الجناح الذي يميل للتغريب، بضرورة انتقاء الأحكام الشرعية من المذاهب المختلفة بحسب الحاجة، دون التقيد بالمذهب الحنفي، الذي كان هو المذهب الرسمي للمحاكم الشرعية والنظام القضائي المصري/العثماني في ذلك الوقت، بحيث تكون أحكام المذاهب الأخرى متاحة أمام القضاة الشرعيين للاختيار منها، كما تكون أحكام المذاهب جميعها متاحة أمام الهيئات التشريعية عند إصدار القوانين المحلية. وقد كان هذا الانتقاء من المذاهب المختلفة هو ما أسماه الإصلاحيون التخير، بينما اعتاد التقليد المذهبي الفقهي أن يسميه التلفيق.
وبطبيعة الحال، فقد قاوم هذه الفكرة كثير من العلماء الأزاهرة، مثل شيخ الأزهر ومفتي الديار حتى عام 1899، الشيخ حسونة النواوي، وكثير من المسئولين عن القضاء الشرعي، وعلى رأسهم قاضي القضاة العثماني، الذي كان يمثل رأس النظام القضائي الشرعي في مصر، وهمزة الوصل الأساسية بين الحكومة المصرية والسلطة العثمانية في إسطنبول. وقد تعاقب على هذا المنصب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى إعلان الحماية البريطانية على مصر عام 1914 أربعة من القضاة العثمانيين الكبار، وهم على الترتيب عبد الرحمن أفندي نافذ، الذي تولى المنصب في عهد الخديو توفيق، ثم عبد الله جمال الدين أفندي، ثم يحيى أفندي، ثم أخيراً نسيب أفندي عبد الرحمن.
وبرغم المقاومة الشديدة التي أبداها الثلاثة الأوائل لمشروع التخير/التلفيق في الأحكام، وتجاوز سلطة المذهب الحنفي – الذي يمثل في الحقيقة سلطة الدولة العثمانية على مصر كأحد ولاياتها - إلا أنه قد أقر مشروع قانون لائحة المحاكم الشرعية الذي يسمح بالتخير من خارج المذهب الحنفي في عهد الأخير – نسيب أفندي عبد الرحمن - حيث كانت سلطة الدولة العثمانية قد تهاوت بالفعل بعد الانقلاب الذي قام به القوميون الأتراك عام 1909 على السلطان عبد الحميد، وتنصيب أخيه محمد الخامس بدون أي سلطة فعلية.
ولم يكن الصراع حول هذه الفكرة محض مسألة قانونية نظرية، كما لم يكن، كما يحلو للكثيرين تصوره بشكل اختزالي، صراعاً بين تيار التقدم وتيار الجمود داخل النخبة الأزهرية أو المجتمع الفقهي بشكل أوسع. فقد كان المسئولون البريطانيون في مصر آنذاك يفهمون جيداً منشأ الصراع حول هذه المسألة، وأن القضية لم تكن الجمود المفترض لدى النخب الأزهرية كما اعتاد الإصلاحيون أن يؤكدوا، وإنما المسألة هي نزوع كثير من القادة الشرعيين والقيادات الأزهرية لمقاومة تغول السلطة الاستعمارية على النظام القضائي المحلي، وعلى السيادة العثمانية.
وقد وصف المستشار القضائي الإنجليزي جون سكوت صراحة هذه الدعوات في تقريره «الإصلاح القضائي في مصر - Judical Reform In Egypt» بأنها توجهات مناهضة للإنجليز، لصالح المكائد التركية. كانت المسألة إذن صراعاً على النفوذ بين الاستعمار البريطاني والدولة العثمانية التي كانت تدافع عن نفوذها على إحدى ولاياتها من تغول الإنجليز.
ومنذ إعلان الحماية البريطانية على مصر في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وقطع الصلة المباشرة بينها وبين المركز العثماني، أصبح التخير/التلفيق بين المذاهب خياراً مفتوحاً أمام الهيئات التشريعية المتعاقبة، ومشاريع القوانين التي تقترح، وصولاً إلى نسخة القانون المدني المصري، الذي وضعه القانوني الأشهر عبد الرزاق السنهوري، والذي التزم إجمالاً بتقنين الرأي الراجح من المذهب الحنفي، غير أنه تجاوز إلى المذاهب الأخرى في عديد من الحالات.